العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. جدار الموت

يمنات

أحمد سيف حاشد

– في دورة الصاعقة أذكر أنني كنت أركض في حلبة (الصاعقة) حتى أكاد أتقيأ، و لكنني كنت أصمد على نحو لم أكن أتوقعه .. و في اقتحام الحواجز كان علينا تسلق جدار ارتفاعه أكثر من أثني عشر متر، و أنت حاملا سلاحك و عدتك العسكرية كاملة .. لا يساعدك في هذا الصعود غير حبل مربوط في رأس الجدار..

– أذكر أنني في إحدى المرات كدت أن أسقط قبل أن أصل إلى أعلى الجدار .. خارت قواي إلى درجة بدا لي لأول وهلة إن الأمر صار سيان، بل أن السقوط مريح أكثر من إكمال ما بقي من ارتفاع الجدار و هو قليل..

– داهمني فتور شديد، و كادت قواي أن تخور .. قدماي على ظهر الجدار لم تعودا تقويان حتى على الثبات، فكيف يكون الصعود..؟!! قواي خائرة، و توازني بدأ يختل، و الصعود يبدو مستحيلا إلا بصعود الروح..

– يداي ترتعشان، و لكنهما تحاولان مقاومة السقوط الذي صار وشيكا، أو على مسافة مدت يد واحدة، و راحتا كفاي تهران دما، أو تكادا تنفطران، و هما قابضتان باستماتة على الحبل الغليظ، فيما صمتي المكابر يرفض أن يستغيث، بل و شعرت أن عارا سيدركني إن طلبت نجدة أو مساعدة..

– وعيت أن السقوط إذا ما حدث سيكون مميتا .. و وعيت إن تخاذلت يداي عن عزم الصعود و تراجعها قليلا سيعقبها انهياري الكامل، و أكون قد أرتكب الحماقة الأخيرة في حياتي، و هي حماقة قاتلة، و في أفضل الأحوال ستلحق بي عاهة مستديمة .. هذا الوعي الكثيف في لحظة فارقة، و غريزة البقاء التي شعرت أنها تنتفض داخلي بعنفوان، و إفراز الجسم لمادة (الأدرينالين) في مواجهة هذه الخطر المؤكد، جعلني أغالب اللحظة، و أغلب هذا التحدي المميت..

– استمت في الصعود، و تجاوزت الخطر، و وصلت إلى رأس الجدار حتى بدا لي الأمر و كأنني اجترحت معجزة أنجتني من موت محقق أو إعاقة دائمة .. خضت في ذلك الصعود تحدٍ حقيقي و مغالبة انتزاع الحياة من فك مفترس .. أدركت أن بين الموت و الحياة لحظة و قرار .. تعلمت أن بين النصر و الهزيمة قليلا من الجلد و الصبر في برهة زمن حاسمة .. بين أن أكون غالبا أو مغلوبا قليلا من التحدّي و الصبر و الاستماتة من أجل الحياة و الأمل و النجاة..

– تذكرت هذا الدرس في نفس الدورة، و أنا أعاصر زميلي سند الرهوة في لي الذراع و الكف؛ لنرى من الأقوى، و الأكثر جلدا و صبرا و غلبة .. من الذي باستطاعته أن يسقط يد الآخر، و يغلبها بإسقاطها إلى سطح الطاولة .. كان هذا التحدي أشبه بالمبارزة، و لكنها كانت مبارزة ودودة، و قد جرت أمام مشهد من الزملا الأعزاء .. كان بين انتصاري و هزيمتي برهة زمن، و لحظة صبر فارقة، طُلتها بآخر نفس، بعد أن كادت يدي تهوى و تسقط من عل بلمح البصر .. قلت عقبها لزميلي سند: “لو أنت صبرت ثانية فقط، كنت غلبتني و انتصرت بفوز ساحق و أكيد..”

– اليوم أتذكر بلوع قمة الجدار الذي راق لي أن أسميه “جدار الموت” .. أتذكره في كل مغالبة .. أتذكره و أنا أغالب سلطات أقبح من بعض .. سلطات أمر واقع شتّى، لا تتنافس فيما بينها إلا بالدمامة و القبح على المواطن .. سلطات بيدها كل إمكانات و أسباب القوة و القهر و الإخضاع، فيما أنا لا أملك غير إرادة تستميت من أجل الحياة بكرامة، أو بلوغ المجد بالموت المشرّف، إن فرض الموت كلمته..

– و عندما تتكالب علىّ كل الظروف و المحبطات، و يطبق اليأس بسواده الحالك على عيوني، و بثقله الثقيل على أنفاسي، ليحملني على الاستسلام، أستحضر تلك المقولة التي قرأتها ذات يوم: “قبل أن تستسلم فكر لماذا تماسكت كل هذه المدة” ثم استثير في نفسي مقاومة المستحيل، و عنادي المنتحر، و آثر الموت المجيد على الاستسلام المميت، أو الأكثر إماته..

***

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى